د /محمد صالح النواوي
الأستاذ المتفرغ بكلية العلوم جامعة القاهرة
رئيس مجلس إدارة جمعية الإعجاز العلمي في القرآن
للنجوم قصة حياة تماماً كالبشر، وتولد وتكبر تدريجياً لتصل إلى مرحلة الشباب والفتوة، ثم تصير إلى الشيخوخة، ثم يصيبها الموت!! نعم تموت النجوم كما يموت الإنسان. ولقد فهم الإنسان حديثاً السيناريو العام لقصة حياة النجوم وطريقة تطورها، من مرحلة عمرية إلى أخرى.
وفي هذه المحاضرة سوف أمرُّ (بغير تفصيل) على المراحل المختلفة من حياة النجوم لنستطيع في ضوئها الوقوف على بعض الآيات القرآن التي تحمل معاني عظيمة وتحتوي جوانب من الإعجاز العلمي. وسنلاحظ من خلال تتبعنا لهذه الآيات القرآنية أنها تحمل إشارات لبعض (أو قل أهم) تلك المراحل، وقد يظن البعض أنها آيات تحمل ذات المعنى أو تشير إلى نفس الظاهرة، وهذا ليس بصحيح، بل الحقيقة أن كل واحدة من تلك الآيات تشير إلى مرحلة بعينها من مراحل تطور النجوم.
إن فهم تلك الآيات ذات الإشارات إلى آيات من خلق الله في النجوم، والوصول إلى أدراك ما في هذه الآيات من إعجاز علمي، يملأ النفوس المؤمنة باليقين الذي تطمئن به.. فلنحاول أن نتحرك مع تيار الإعجاز العلمي علناً نصيب، فيوفقنا الله للوقوف على بعض ما في القرآن الكريم من ذخائر نفيسة وإشارات واضحة لاكتشافات فلكية حديثة، فإن أصبنا فمن فضل الله علينا، وإن أخطائنا فمن أنفسنا.
الأرحام التي تولد داخلها النجوم:
تولد النجوم داخل سحب جبارة من الغاز والغبار الذي ينتشر في أنحاء كثيرة من مجرتنا، بل وفي جميع المجرات الأخرى. تعرف تلك السحب التي تنتشر بين النجوم بالسحب البيننجمية. ويعتبر بعضها رحماً صالحة تولد فيها نجوم، وتعتبر أخرى رحماً غير ولود، إذ ليست كل السحب قادرة على تكوين النجوم.
وقد عرف العلماء تلك الشروط الواجب توافرها في السحب الولود، فتنتشر تلك السحب على أذرع مجرتنا حيث تتوفر الظروف المساعدة من تلك السحب لتتكون داخلها نجوم جديدة. ولقد رصد الفلكيون كثيراً من تلك السحب المنتشرة هنا وهناك في مجرتنا (درب التبانة) وفي غيرها من المجرات المحيطة بنا.
ومن يطلع على صور تلك السحب سيرى مناظر تتسم بالروعة والجمال، منها سحب لامعة وأخرى داكنة، كما أنه يجد تنوعاً في الألوان والأشكال. وقد تتفاعل أشعة النجوم مع مادة السحب فتصنع ألوناً خلابة مؤكدة قدرة الخالق العظيم على تزيين السماء بالعديد من تلك السحب، كما زينها بالنجوم والكواكب وغيرها من الأجرام التي تذخر بها قبة السماء فوقنا وهذا مصداقاً لقوله سبحانه وتعالى : (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج)، فلقد زين الله السماء بما أودع فيها من الأجرام ذات النسق الرائع والألوان الجميلة والأشكال البديعة التي تبهرنا مع كل أرصاد جديدة تثبتها لنا المراصد العالمية، سواء تلك الموجودة على الأرض أو تلك المنتشرة في الفضاء الخارجي.
تتكون السحب بشكل أساسي من الهيدروجين وقليل من الهليوم، ثم كميات نادرة من الأوكسجين والنيتروجين والكبريت وغيرها من تلك العناصر التي نعرفها في عالمنا وحياتنا، وتتفاعل تلك العناصر مع بعضها البعض داخل السحب لتكون خليطاً من الذرات والجزيئات النادرة التي قد يكون بعضها غريباً عن حياتنا. وفي حقيقة الأمر فإن السحب البيننجمية توفر لنا معملاً كيميائياً يختلف كلية عما نألفه في معاملنا الكيميائية الأرضية. فالكيمياء في معاملنا يغلب عليها تلك التفاعلات التي يدخل فيها الأوكسجين أو النتروجين، كعوامل أساسية، وهذا بالطبع ناتج عن كون الأوكسجين والنيتروجين هما العنصران الأساسيان، وهذا بالطبع ناتج عن كون الأوكسجين والنتروجين هما العنصران الأساسيان في غلافنا الجوي.
أما في السحب البيننجمية فإن الهيدروجين فهو العنصر الأساسي، وبالتالي فإن أغلب التفاعلات الأساسية ستكون من الهيدروجين .
كما توجد سلسلة من التفاعلات الكربونية والتي قد ينتج عنها تكون حبيبات من الغبار المنتشر في تلك السحب تلعب دوراً مهما في تطورها.
لقد أدرك العلماء أن الكيمياء التي نعرفها في معاملنا الأرضية تختلف كثيراً عن تلك الكيمياء التي تتحكم في السحب المنتشرة بين النجوم، فإذا تصورنا أن السحب هي معامل كونية تنتشر في جنبات الكون لأدركنا أن الكيمياء التي نعرفها على كوكبنا هي حالة فريدة مما هو منتشر في الكون من حولنا.
قد يكون حجم السحابة الواحدة أكبر من مجموعتنا الشمسية، أكبر بآلاف أو حتى بملايين المرات، وقد تحتوي السحابة بين طياتها على الآلاف من النجوم، أو حتى الآلاف من حشود النجوم، مما يؤكد أن السحب غالباً ما تكون كبيرة في حجمها. وقد تكون كتلة السحابة، مما يؤكد أن السحب غالباً ما تكون كبيرة في حجمها . وقد تكون كتلة السحابة الواحدة تزيد عن مائة ألف كتلة الشمس، ولو تصورنا مدى صغر كثافة المادة داخل تلك السحب لتخلينا كم يكون حجمها.
قد يقل عدد الذرات داخل السنتيمتر المكعب الواحد إلى عشر ذرات، وهو رقم صغير جداً إذا ما قارناه بعدد الذرات المنتشر في غلافنا الجوي(الذي يصل لحوالي 10 19 في السنتيمتر المكعب).
وقد تقل درجة الحرارة بشكل كبير داخل تلك السحب لتصل إلى 10 درجات مطلقة، أي أقل بكثير من درجة الحرارة على سطح الأرض(التي يصل في المتوسط إلى 300 درجة مطلقة).
وهذا عامل آخر يعلب دور مهماً في كيمياء تلك السحب حيث يوفر ظروفاً حرارية مختلفة تماماً عما نعرفه في معاملنا الأرضية، وهي ما يعرف حالياً (بكيمياء الحرارة المنخفضة).
وقد تقوى تفاعلات لتصبح ذات أهمية بينما تقل أهمية تفاعلات أخرى، مما يساعد ‘لى ظهور الكثير من التفاعلات الكيميائية التي لا نتوقعها بمعلوماتنا الكيميائية من خلال خبرتنا الأرضية. وهذا ما حدى بالكثير من خبراء الكيمياء الفلكية أن يعيدوا حساباتهم كي يستطيعوا التعامل مع تلك الظروف الغريبة التي تنتشر هناك في تلك السحب المنتشرة بين النجوم.
جنين النجوم:
تتكون النجوم داخل تلك السحب الكثيفة التي تكون في منأى عن النجوم فتستطيع أن تحتفظ بدرجات حرارة منخفضة، مما يساعد على انكماش مادة السحابة نحو مركز في داخلها.
وقد تنقسم السحابة الأم إلى سحب صغيرة ليتكون بداخل كل منها نجم جديد، ومن هنا تصبح السحابة الأم رحماً لعشرات النجوم الجديدة. ولقد لاحظ الفلكيون أن النجوم الجديدة تتكون بالعشرات في بطن واحدة، فأرحام السحب غنية بإنتاجها من النجوم.. ومع انكماش مادة السحابة نحو مركزها تزداد الكثافة حتى تقترب مما نعرفه (بالكثافة الشمسية)، وفي تلك المرحلة المتأخرة تستطيع الكتلة المركزية أن تحبس الحرارة داخلها مما يساعد على ارتفاع الحرارة بشكل كبير لتبدأ التفاعلات النووية.
وهنا نقول: إن قلب النجم الجديد بدأ ينبض بالحياة، ويكون الجنين قد أصبح نجماً جديداً، طفلاً يزهوا بضيائه ونشاطه ليعلن عن بدء الحياة لكائن جديد قال له رب العزة كن فكان.
ويسمى الفلكيون النجم الوليد باسم (ت الثور)، وهي تسمية غريبة لا علاقة لها بطبيعة تلك المرحلة الأولية من حياة النجوم.
رصد الفلكيون نجوماً من تلك المرحلة الأولية (من حياة النجوم) وحددوا صفاتها منذ زمن ليس ببعيد، ولكنهم وقتذاك لم يعرفوا كنه وطبيعة هذه النجوم.
وكان أول نجم يرصد بتلك الصفات هو نجم (ت) الموجود في مجموعة الثور.
ومن هنا فإن كل نجم رصد بنفس الخصائص كانوا يلقبونه بفصيلة نجم النجوم.
وعموماً فإن النجوم الوليدة تتميز بلمعان شديد يميل إلى الزرقة، كما أن النجم يكون متغيراً في تلك المرحلة، كحال الطفل الوليد في عالم البشر، إذ يكثر البكاء والصراخ في أوقات متلاحقة إلى أن يعوده أبواه على حاله من الاستقرار والهدوء.
تطور النجوم في مشوار حياتها:
يهدأ النجم الوليد بعد مرور فترة ما، ليصبح نجماً مستقراً في أحواله وفي صفاته، ثم يتقدم تدرجياً في العمر ليصبح شاباً فتياً.
ومن الجدير بالذكر أن شمسنا عبارة عن نجم في مرحلة الشباب، نلاحظ عليها استقرار في خصائصها، فلا تخرج علينا يوماً بضياء شديد ثم تبدو كنجم خافت في يوم آخر، ومن فضل الله علينا أن شمسنا نجم مستقر يرسل لنا معدل ثابت (تقريباً) من الأشعة، بحيث توفر لنا أسباب الحياة والدفء اللازمين لبهجة حياتنا.
ومرحلة الشباب هي أطول المراحل في عالم النجوم، وهذا يعني أن شمسنا ستظل بقدرة الله تعالى على تلك الحال من الاستقرار والثبات إلى فترة طويلة من عمرها.
ويقدر العلماء عمر الشمس الآن بحوالي 450 مليون سنة، وأنها مستمرة على حالها لفترة 5000 مليون سنة أخرى، وبعدها ستنفتح لتصبح نجماً عملاقاً، يبتلع الكواكب القريبة منه، واحداً بعد الآخر، ومن المعروف أن كوكبنا الأرضي أحد تلك الكواكب ستبتلعها الشمس حسب التقديرات النظرية.
ولنتخيل معا ما سيحدث لكوكبنا وعالمنا مع اقتراب الشمس من الأرض حتى تبتلعها، إن درجة الحرارة سترتفع تدريجياً، فيهرب الغلاف الجوي تدريجياً، وهنا لابد وأن تموت جميع الكائنات التي تعيش على الأرض.
وتدريجياً تتبخر مياه البحار والمحيطات لتتحول الأرض إلى كوكب جاف، ثم تدخل الأرض تدريجياً تتبخر مياه البحار والمحيطات لتتحول الأرض إلى كوكب جاف، ثم تدخل الأرض تدريجياً في غياهب باطن الشمس ذي الحرارة الرهيبة، فتذوب مادة الأرض بفعل الحرارة الرهيبة لباطن الشمس، فيصبح كوكبنا جزء من أحشاء الشمس. وقبل أن تبتلع الشمس كوكبنا الأرضي قد تبتلع القمر قبلها، وقد يكون ذلك تفسيراً لقوله تعالى: (وجمع الشمس والقمر).
وهذه القصة النظرية لنهاية كوكبنا تختلف كثيراً عن الأحداث الجسام التي يخبرنا بها المولى عز وجل في القرآن الكريم عن يوم القيامة، ففيه تحدث أهوال عظيمة كثيرة، يضيق المقام هنا عن الوقوف عندها. ولكن هذه النهاية (التي عرفها الإنسان من خلال دراسته لحياة النجوم) تؤكد حقيقة مهمة وضحها رب العزة في كتابه الكريم بقوله تعالى : (كل نفس ذائقة الموت)، فالموت قدر من الله يصيب كل الخلائق، حتى الكواكب والنجوم، فإنها تلقى حتفها وتذوق مرارة الموت في لحظة ما من حياتها، حسبما يقدر الخالق تبارك وتعالى.
ولو أدعى شخص أن النهاية التي ستحدث لكوكبنا هي من علامات يوم القيامة، لقلنا له أننا بذلك نستطيع أن نحدد بالحسابات الفلكية موعد يوم القيامة، وهو أمر خبأه الله عن البشر، فكيف يكون الموقف؟ في تلك النهاية لكوكبنا لا يحدث أي شخص للنجوم من حولنا، بل إن جيران شمسنا لا يشعرون كثيراً بانتفاخها، ولكنهم يرونها كنجم عملاق بعد أن كان صغيراً.
أما في أحداث يوم القيامة فإن عقد الجاذبية سينفرط، فتحدث فوضى عارمة في السماء، من انشقاق إلى أنكدار النجوم، وغير ذلك مما لا يعلم مداه إلا الله.
تتمدد النجوم وتنتفخ لتصبح عمالقة حمراء فنرى لها بريقاً عالياً أكثر مما نراه للنجوم التي في مرحلة شبابها.
والكثير من النجوم التي تراها لامعه في قبة السماء هي في الحقيقة عمالقة حمراء، أو حتى عمالقة ذات بريق عالي جداً، أما أغلب النجوم المجاورة لشمسنا فهي نجوم خافتة قد يصعب رؤية الكثير منها بالعين المجردة. ومن أمثلة النجوم الساطعة في السماء ( والتي عرفها أجدادنا): النجم سهيل، وهو ثاني ألمع نجوم السماء، وكذلك:السماك:الرامح، والعيوق، ومنكب الجوزاء، وقد أصبح عملاقاً أحمراً كبيراً يزيد في حجمه عن 1700 مليون كرة شمسية، كما أنه نجم متغير.
ومن النجوم الساطعة أيضاً: نجم بيتا قنطورس، الذي يزيد من لمعانه عن 10 آلاف لمعان شمس، ونجم قلب الأسد ورفيقه، وهما نجمان كبيران وقد أصبح عملاقان فائقان، ونجم قلب العقرب عملاق أحمر براق، وهو متغير أيضاً، ولمعانه الحالي يبلغ 2700 لمعان شمسي، ونجم رأس التوأم المؤخر، والذنب، في مجموعة الدجاجة، وهو عملاق أحمر يبلغ لمعانه 63 ألف لمعان شمسي، ونجم رجل الجبار الذي يزيد في لمعانه عن ربع مليون كرة شمسية. وهذا بالطبع قليل من كثير من تلك النجوم التي تركت مرحلة الشباب وبدأت تظهر عليها أعراض الشيخوخة.
ولقد أشتهر " سهيل " كثيراً في مخيلة الكثيرين من أسلافنا حتى كتبوا عنه شعراً كثيراً، ومن ذلك ما قاله أبو العلا المعري:
وسهيل كوجنة الحب في اللون وقلب المحب في الخفقان
مستبداً، إنه الفارس المعلم يبدو معرض الفرسان
يسرع اللمح في احمرار كما تسرع في اللمح مقلة الغضبان
ضرجته دما سيوف الأعادي فبكت رحمة له الشعريان
من الأمثلة الشهيرة لنجوم مازالت في مرحلة الشباب(غير الشمس): الشعرى اليمانية، ورجل قنطورس، والنسر الواقع، وبيتا الصليب الجنوبي، ونجم آخر النهار، والنسر الطائر، وهو أكبر من شمسنا، والسماك الأعظم، والشعرى الشامية، وهي في طريقها للتحول إلى عملاق أحمر.
وبعد أن تتمدد الشمس ويصبح حجمها كبيراً، فإنها لن تستطيع أن تستمر طويلاً في الإمساك بتلابيب أطرافها، فتهرب الطبقات الخارجية منها تدريجياً (في شكل حلقات غازية تخرج متتابعة في منظر مهيب) ، وفي تلك الحالة ستطاول تلك الحلقات جميع الكواكب الخارجية حتى (بلوتو)، بل وجميع أطراف المنظومة الشمسية.
تعرف تلك المرحلة من حياة النجوم بمرحلة (السدم الكوكبية)، حيث تلفظ النجوم طبقاتها الخارجية من حياة النجوم بمرحلة (السدم الكوكبية)، حيث تلفظ النجوم طبقاتها الخارجية في شكل حلقات مستديرة تشبه في منظرها الخارجي الكواكب في استدارة شكلها.
ونجم (القيثارة) هو أحد أشهر تلك الأمثلة التي يعرفها الفلكيون من يبين آلاف النجوم التي رصدناها، وهي تلفظ طبقاتها الخارجية.
ستفقد الشمس في تلك المرحلة ما يزيد عن ثلث كتلتها لتصبح بعد ذلك لب عاري صغير حرارته شديدة، ويتوقف نبض التفاعلات النووية في الباطن لتبرد الشمس تدريجياً ويتصاغر حجمها كثيراً وتدخل إلى مقابر النجوم فيما يعرف بمرحلة (الأقزام البيضاء). وفي تلك المرحلة تكون كثافة المادة عالية بدرجة رهيبة، حيث يزن السنتيمتر المكعب من مادة القزم الأبيض حوالي طن واحد من مادة الأرض، كما أن حجم الشمس في تلك المرحلة سيتصاغر ليصبح في حجم الأرض تقريباً.
تحدث الخالق عز وجل عن تلك المرحلة الدقيقة من حياة شمسنا في الآية الأولى من سورة التكوير بقوله تعالى : (إذا الشمس كورت)، قال أبىّ بن كعب: أي ذهب ضوءها، وعن ابن عباس : أظلمت، وعن مجاهد: اضمحلت وذهبت، ذهب ضوءها فلا ضوء لها.
وقال الطبري: التكوير في كلام العرب جمع بعض الشيء إلى بعض، أي جمع بعضها إلى بعض.
وهذا الكلام الأخير يمكن أن يفسر ما نحن بصدده بشكل أكثر انسجاماً، ويبين تلك المرحلة الدقيقة من حياة الشمس، حيث تتكور على بعضها وتنكمش نحو داخلها، فيتصاعد حجمها إلى حد كبير.
وفي الآية الثامنة من سورة المرسلات يذكر المولى عز وجل تصاغر النجوم ووصولها لتلك المرحلة من نهاية حياتها وتصاغر حجمها، بقوله تعالى: (فإذا النجوم طمست). وفي الظلال تلك الآية قال السلف من المفسرين(كابن كثير): طمست أي ذهب ضوءها، وقال الطبري:أي ذهب ضياؤها فلم يكن لها نور ولا ضوء .
وهذا الكلام هو حقيقة ما نفهمه من خلال تلك الأحداث الجسيمة التي تحدث للنجوم بعد أن تلفظ طبقاتها الخارجية، فيصبح النجم بعد ذلك عبارة عن لب عاري لا تغطيه طبقات خارجية، ويكون هذا اللب منكمشاً على نفسه بدرجة كبيرة، كما أن نبض قلب النجم في تلك لحالة يكون متوقفاً أو على وشك التوقف، لتنطفئ شمعة هذا النجم، فيخفت ضوءه وتقل أشعته تدريجياً ليصبح (قزماً أسوداً) بعد أن كان (قزماً أبيضاً).
تخبت الحرارة تدريجياً نتيجة توقف التفاعلات النووية، والتي تمثل نبض قلب النجم، وبالتالي يفقد النجم مصدر حرارته وطاقته فيذبل ويضعف ويخفت ضوءه ليدخل بعد ذلك في (مقابر النجوم).
إنها مرحلة حاسمة في قصة الحياة في عالم النجوم، ومن هنا نشعر بعظمة تلك القسم الواردة في (سورة المرسلات)، فهو قسم بتلك المرحلة الأخيرة من حياة النجوم، وهو قسم يعد بحق قسم بأمر عظيم ويمثل حدثاً مهماً في ركن من أركان ذلك الكون الهائل.
وهناك العديد من الأمثلة لنجوم أصبحت أقزاماً بيضاء، منها رفيقاً الشعرى اليمانية والشامية. ولقد تمكن التليسكوب الفضائي (شاندرا) من تصوير الشعرى اليمانية ورفيقه بالأشعة السينية، فكانت المفاجأة المتوقعة أن ظهر رفيق الشعرى ألمع من الشعرى ذاته، فرفيق الشعرى قزم أبيض يبث كمية من الأشعة السينية أكبر مما يبثه نجم الشعرى، والمعروف أنه ألمع في الضوء المرئي، وبالتالي فهو أشهر من رفيقه.
ولأن (شاندرا) يرصد في نطاق الأشعة السينية فقط، فقد أظهرت صورته لزوجى الشعرى لمعان الرفيق عن الشعرى، فكانت مفاجأة سارة ومتوقعة من خلال معلوماتنا النظرية عن التفاصيل الدقيقة لخصائص وصفات النجوم في مراحلها المختلفة.
(والنجم إذا هوى)
نلاحظ مما ذكرنا فيما سبق من طريقة تطور النجم(كما سيظهر فيما يلي من حلقات تطور النجوم) أن الميكانيكية الأساسية التي تلعب دوراً مهما في تطور النجم من مرحلة إلى أخرى هي عملية انكماشه نحو مركزه، فالنجم يبدأ حياته من انكماش سحابة نحو مركزها، وبعد استقراره فترة طويلة من حياته ينتفخ ليصبح عملاقاً أحمراً، ولكنه يعاني من انكماش يستمر في لبه ينقله من مرحلة لأخرى في التفاعلات النووية.
ثم إنه بعد ذلك يعاني من انكماش رهيب قبل موته يؤدي إلى طمسه وتكويره على بعضه. وقبل أن ينفجر النجم الكبير (كسوبرنوفا هائلة)، فإنه يكون قد مر بانكماش رهيب لمادته نحو مركزه.
وهكذا فإن تهاوي مادة النجم وانكماشه نحو مركزه تعد بحق ميكانيكية أساسية يتحرك بها النجم من مرحلة إلى أخرى، ومن هنا أجد نفسي أقف أمام تلك الآية العظيمة من سورة النجم، يقسم ربنا جل وعلا فيها : (والنجم إذا هوى)، فهذا قسم بآية عظيمة تصور حدثاً مهما في حياة النجوم. وهي إشارة ميكانيكية أساسية تتكرر مرات ومرات في حياة النجوم. وهي بذلك دليل آخر على ما يحتويه القرآن الكريم من جوانب الإعجاز العلمي التي سبق بها كل ما وقع في أيدي البشرية من علم بحوالي أربعة عشر قرناً.
ولو وقفنا عند لفظة " هوى" نجدها تدل على هوى جسم، فلو هوى حجر من أعلى فإنه يظل في هوى حتى يسقط على سطح الأرض ـ لأنها مركز جاذبيته.
ولو تصورنا أن حجراً يهوي في غلاف المريخ فإنه سيسقط في لحظة ما على سطح المريخ، لأن الأجسام تهوي نحو مركز جاذبيتها.
ولكن، أين تهوي النجوم؟ هل هناك مركز جاذبية يمكن أن تهوي النجوم نجوه ؟ قد يتبادر إلى الذهن أن النجم يهوي إلى مركز المجرة، حيث أن النجوم تدور حوله.
ولكن هل رصدنا نجماً يهوي نحو مركز المجرة؟ تتحرك النجوم حول مركز المجرة، بحيث يحدث توازن بين قوى الجذب نحو مركز المجرة مع طاقة حركة تلك النجوم في مداراتها المعقدة حول مركز المجرة.
ولو تصورنا أن نجماً ما يقع في مكان بعيد من أطراف المجرة، فقد تسمح له ظروفه بالهروب من المجرة، ولكنه بلا شك سيهاجر إلى نظام آخر كي يعيش داخله (كمجرة مجاورة أو حشد نجمي)، وهوي النجوم في ظل هذه الحركة المدارية أمر بعيد المنال، وقد يكون من الممكن أن نقول : هناك احتمال لتصادم النجوم، ومن هنا نجد أنفسنا أمام معنى واحد يعرفه علماء الفلك بوضوح في هذه الأيام لهوي النجوم من خلال تطور النجوم هو كما ذكرنا أنفاً.
(النجم الثاقب):
النجوم الأكبر من الشمس (لكتلة تزيد عن 12 كتلة شمسية) ذات شأن آخر، حيث يتطور النجم بسرعة أكبر، وسينفجر في نهاية حياته محدثاً انفجاراً مهولاً يعرف (بالسوبرنوفاً)، وبقايا النجم بعد ذلك تكون ما يعرف (بالنجم النيوتروني)، وهو نجم نابض يتمتع بسرعات، لا أقول عالية، بل جبارة، في الدوران حول نفسه، حتى أنك لو تخليت رجلاً يقف فوق هذا النجم فإنه سيرى قفاه من شدة سرعة دورانه .
صورة للسوبرنوفا لأحد النجوم المنفجرة
تمتلك تلك النجوم خصائص عجيبة، بل ويصعب تخيلها على الكثيرين منا حتى أننا لو لم نجد ما يؤكد ما توفر لدينا من معلومات عن تلك النجوم لقلنا عنها أنها ضرب من الخيال العلمي. ولكن الأرصاد الفلكية والحسابات النظرية تؤكد حقيقة تلك النجوم وخصائصها الفريدة.
وقد تزيد كتلة النجم في بداية حياته عن 30ـ 40 كتلة شمسية، ومثل هذا النجم سينتهي (كثقب أسود)، حيث تنتصر قوى الجاذبية على جميع القوى الأخرى التي يمكن أن تتحكم في النجم، وحينها سيستمر انكماش النجم إلى حدود لا تعرف لها نهاية، فهل سيتصاغر النجم إلى ما لا نهاية!!
الثقب الأسود نجم يتمتع بجاذبية رهيبة حتى أنها تمنع الأشعة من أن تخرج من سطح النجم.
وهذا يعني أنه لن تصلنا أشعة من الثقوب السوداء، فتصبح كالثقب في ثوب السماء.
وهي (ثاقبة) بجاذبيتها الشديدة، فتجذب المادة من حولها لتبتلعها في باطنها.
ولو عدنا إلى الوراء قليلاً لوجدنا أن هذا النجم الثاقب كأن (طارقاً) للسماء من حوله بأحزمة من أشعته تخرج من عند قطبيه، يضرب بها صفحة السماء من حوله، بل وبها ويعرف النجم النيوتروني كنجم نابض.
ويخرج النجم النابض ما يقرب من 1000 نبضة في الثانية الواحدة، مما يوضح قوة طرقه للسماء من حوله بتلك النبضات الشديدة في سرعتها وقوتها.
ولنقف الآن أمام قوله تعالى في سورة الطارق
والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب).
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآيات : يقسم تبارك وتعالى بالسماء وما جعل فيها من الكواكب النيرة، ولهذا قال تعالى : (والسماء والطارق) ثم قال : (وما أدارك ما الطارق)، ثم فسره بقوله (النجم الثاقب).
قال قتادة وغيره : إنما سمي النجم طارقاً لأنه إنما يرى بالليل ويختفي بالنهار، ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث الصحيح : نهى أن يطرق الرجل أهله طروقاً، أي يأتيهم فجأة بالليل.
وفي الحديث الآخر المشتمل على الدعاء: إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن. وقوله تعالى (الثاقب)، قال عكرمة : هو مضئ ومحرق للشيطان. وهذا الكلام ينطبق على كل النجوم في السماء، وهو كلام قاله أصحابه في ظل ما توفرت لديهم من معلومات عن النجوم، وهو صحيح أيضاً إذ يتسع المعنى له.
وبعد أن فهمنا قصة حياة النجوم وما يحدث فيها من آيات معجزات، فإن الأحوال التي تشاهدها للنجم النيوتروني النابض يمكن أن نفسر من خلالها تلك الآيات الثلاث الأولى من سورة الطارق، فالنجم النابض يتمتع بعملية الطرق للسماء من حوله بأحزمة الأشعة التي تخرج منه من عند قطبيه (بقوة وبسرعات رهيبة) مما يجعلها وسيلة للطرق، وبالتالي تصلح تسميته في هذه الحالة (الطارق)، كما أن هذا النجم يتمتع بجاذبية عالية تمكنه من جذب المادة القريبة منه وكأنه يثقب السماء من حوله.
وتتوفر تلك الخاصية في أحسن أحوالها في هذا النجم الذي يتحول من نجم نيوتروني إلى ثقب أسود، حيث تصل قوة الجاذبية لأعلى مدى لها، وتتحقق في النجم حينذاك قمة كونه (النجم الثاقب).
وعلى هذا نقول: إن النجم الذي يقسم به رب العزة من الآيات الثلاث الأولى من سورة الطارق، والتي تصفه بأنه طارق وبأنه ثاقب، يمكن (بحسب ما توفر لدينا من معلومات حديثة) أن يكون هو ذلك النجم النيوتروني النابض والذي يمتلك كتلة كبيرة بحيث يمكن أن ينكمش على نفسه ليصبح ثقباً أسوداً في نهاية مشوار حياته.
والفارق الزمني بين النجم في مرحلة النجم النيوتروني وإلى أن يتحول على ثقب أسود لا يستغرق سوى فترة زمنية قصيرة قد لا نتصورها بعقولنا.
نعم، يتحول النجم النيتروني لثقب أسود في أقل من الثانية الواحدة!
فقد ترى نجماً نابضاً وفجأة تراه وكأنه قد انطفأ، وحقيقة أمره أنه يمكن أن يكون قد تحول إلى ثقب أسود. وليس كل نجم نيتروني نابض يتحول إلى ثقب أسود، فالأمر متعلق بكتلة النجم وهو في مرحلة النجم النابض، فلو كانت هذه الكتلة كبيرة بدرجة يمكنها أن تتغلب بقوة جاذبيتها على القوى التي بين النيوترونات، فإن النجم سيتحول في لحظة خاطفة إلى ثقب أسود.
وهذه النوعية من النجوم( التي تصل إلى مرحلة النجم النيوتروني) نادرة بين النجوم، فأغلب النجوم(التي تشبه شمسنا في كتلتها أو حتى تلك التي تكبرها قليلاً) ستنتهي حياتها كأقزام بيضاء.
أما تلك النجوم التي تزيد كتلتها في بداية حياتها عن 12كتلة شمسية، فهي التي يمكن أن تنتهي حياتها كنجوم نيوترونية نابضة، وهذه نادرة في السماء، لعظم كتلتها وندرة الظروف التي يمكن أن تساعد على تكون تلك النجوم الكبيرة جداً.
وإذا كان هذا هو الحال بالنسبة للنجوم النابضة، فإن عدد النجوم التي تتحول إلى نجوم نابضة(ثم إلى ثقوب سوداء) سيكون أقل بكثير، لأن كتلتها ستكون أكبر بكثير من تلك التي تنتهي في حياتها كنجوم نيوترونية نابضة.
وفي ظل تلك الملابسات السالف ذكرها، يتضح أن الثقوب السوداء تمثل آية كونية فريدة تستحق أن يقسم بها رب العزة في كتابه لندرك بها، ومن خلال ما تتصف به من صفات خارقة، قدرة المولى عز وجل على أن يبث في كونه من الآيات المعجزة ما تخشع أمامه الجوارح وتسلم بقدرة المولى عز وجل، ولا تمتلك إلا أن تذعن له وبالتكبير والتنزيه. وهناك إشارة أخرى لطيفة، هي قولنا عن ذلك النجم " الثقب الأسود "، وكان من الممكن أن نقول مثلاً : التجويف الأسود، أو الخلاء الأسود، ولكنها إرادة المولى سبحانه أن نستخدم نفس لفظة القرآن في التعبير عن ذلك النجم بأنه ثاقب دون أن ندري!!
مصانع النجوم تنتج الحديد والذهب:
يشع النجم نتيجة للتفاعلات النووية التي تحدث في لبه، وتحدث هذه التفاعلات بين أنوية الهيدروجين (لأنه العنصر الأكثر شيوعاً وهو الأقل في الشروط اللازم توافرها من أجل بدء التفاعلات النووية).
والتفاعلات النووية في جميع النجوم تتم بين بروتونات الهيدروجين، فيما يعرف بسلسلة (بروتون ـ بروتون) التي ينتج عنها تكوين الهليوم باتحاد أنوية الهيدروجين .
ومن المعروف أن كل أربع ذرات هيدروجين تكون ذرة هليوم جديدة، ويبقى فارق ضئيل بين كتلة أربع ذرات الهيدروجين وذرة الهليوم الناتجة، فيتحول إلى طاقة، ومجموع تلك الطاقات هي ما يبثه النجم من طاقة. ويمكن بتلك الطريقة حساب مخزون الطاقة النووية التي يمكن أن ينتجها أي نجم (وهي بالنسبة للشمس طاقة هائلة ولديها مخزون من الطاقة النووية يكفي كي تعيش الشمس حوالي عشرة بليون سنة).
وبهذه الطريقة يتم تحديد أعمار النجوم. وطريقة تكوين الطاقة داخل النجوم الأصغر من الشمس، أو تلك التي تكبر عنها قليلاً تتم بنفس الميكانيكية التي تتم بها داخل الشمس.
أما في النجوم الكبيرة، فإن التفاعلات النووية بسلسلة (بروتون ـ بروتون) بالإضافة إلى سلسلة أخرى تعرف بسلسلة (كربون ـ نيتروجين ـ أكسجين) بالإضافة إلى سلسلة أخرى تعرف بسلسلة (كربون ـ نيتروجين ـ أكسيجين)، وهي سلسلة تنتج كميات كبيرة من الطاقة بمعدل عالي يساعد تلك النجوم الساخنة على أن تشع كميات عالية من الأشعة أكثر من النجوم الصغيرة أو حتى النجوم المتوسطة .
ومع تقدم النجوم في العمر يتكون لب كبير من الهليوم وحوله طبقة صغيرة، يتحول فيها الهيدروجين إلى هليوم.
أما الهليوم المتكون في اللب فإنه لا يدخل في تفاعلات نووية، لأن الحرارة فيه تكون أقل من أن تساعد على عمل تفاعلات نووية بين ذرات الهليوم .
وبانخفاض حرارة النجم تكون الفرصة متاحة للجاذبية أن تعمل على انكماش اللب.
ومع انكماش اللب ترتفع حرارة النجم تدريجياً، وتظل عملية الانكماش مستمرة حتى تضيق المسافات فيما بين الذرات، ثم تتزاحم الإلكترونات حتى تصبح في حالة فيزيائية تعرف بحالة التحلل، وعندها ترفض الإلكترونات التقارب من بعضها البعض، وبالتالي فإن عملية الانكماش تؤدي إلى ارتفاع سريع للحرارة، تبدأ معه ظهور شرارة الهليوم فتبدأ التفاعلات النووية فيما بين أنوية الهليوم فيتكون الكربون.... ويمر النجم بنفس الخطوات لينتج العاصر الأثقل.
تحول النجم من مرحلة للتفاعلات النووية إلى مرحلة تنتج عنصراً أثقل يحتم على النجم أن يعاني من حدوث انكماش رهيب في باطنه، حتى ترتفع الحرارة لتبدأ المرحلة الجديدة من التفاعلات النووية. ولا تحتاج النجوم الكبيرة للانكماش كثيراً لكي ترفع درجة حرارتها، لتبدأ المرحلة الجديدة من التفاعلات النووية.
أما النجوم الصغيرة والمتوسطة فإنها (مثل شمسنا) لابد وأن تنكمش في باطنها كي تستجمع قواها لتنتقل بتفاعلاتها النووية إلى حالة تنتج فيها عنصراً جديداً أثقل من سابقه. ويتم من خلال سلسلة التفاعلات النووية إنتاج جميع ما نعرفه من عناصر، حتى الحديد والذهب وغيرها من عناصر ألفناها وعرفناها في حياتنا.
إن النجوم هي مصانع بثها الله عز وجل في جنبات الكون لكي تنتج جميع ما نراه من عناصر، ولقد بدأ الكون بالهيدروجين، ومن خلال التفاعلات النووية داخل النجوم تكونت جميع العناصر الأخرى.. وعندما يفجر النجم طبقاته الخارجية يبث في الوسط المحيط به كثيراً مما أنتجه من عناصر، وهكذا، فإن الذهب في مصانعنا والأوكسجين في غلافنا الجوي، وغيرها من عناصر، أنتجتها نجوم ولفظتها قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة .
لنتخيل معاً السحابة التي كونت الشمس والمجموعة الشمسية، وهي السحابة التي انفجرت بالقرب منها نجوم كبيرة وغذتها بما أنتجته أفرانها النووية من عناصر ثقيلة، فأصبحت تلك السحابة مهيأة لكي تتكون الشمس في مركزها وتتشكل الكواكب من قرص المادة المحيط بالمركز.
ومن هنا فإن الحديد الذي نستخرجه من قشرة الأرض، أو من جوفها، هو من إنتاج نجوم أخرى بثته قبل موته في الوسط المحيط بها، وكان لسحابة مجموعتنا الشمسية النصيب المناسب لتمهيدها حتى يكون أحد كواكبها مستعداً لاستقبال الحياة.
ومن هنا فإننا إذا تأملنا قول الله تعالى : (في الآية 25 من سورة الحديد): (وأنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس) لرأينا ابن كثير يقول : أي وجعلنا الحديد رادعاً لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه، لقد ركز السلف على قوله سبحانه: (فيه بأس شديد ومنافع للناس)، أما نحن سنقف عند لفظ " أنزلنا " وبداية فإن لفظة (أنزلنا) قد تأتي بمعناها المباشر، الإنزال، كما في قوله تعالى (في الآية 32 من سورة إبراهيم )
وأنزلنا من السماء ماء فأخرجنا به من الثمرات رزقاً لكم ) .
وقد تأتي بمعنى (خلق) كما في قوله تعالى في الآية 6 من سورة الزمر (وأنزلنا لكم من الأنعام ثمانية أزواج).ولكن مما رأيناه في طريقة تكوين الحديد، فإن نجوماً كبيرة أنفجرت فغزت سحابة منظومتنا الشمسية بما أنتجته من حديد مع العناصر الأخرى، كالأكسجين والكربون وغيرها.
ومن هنا، فإن الأرجح أن لفظة (أنزلنا) ينبغي أن تؤخذ على ظاهر معناها، أي أن الله عز وجل قد أنزل الحديد إلى السحابة التي تكونت فيها منظومتنا الشمسية، بما فيها كوكب الأرض. وبذلك يكون الإعجاز العلمي في الآية القرآنية في أنها تشير إلى إخبار من الله، أو إلى إشارة ربانية إلى أنه سبحانه قد يسر وجود نجوم كبيرة ساخنة كونت الحديد وغيره من العناصر الثقيلة، وأنها قد بثت ما أنتجته في السحابة التي نشأت منها الأرض وبقية أعضاء مجموعتنا الشمسية، وهذه الإشارة القرآنية لم نعرف كنهها إلا في عصرنا الحديث.
إن باطن الأرض غني بالحديد وقد يتبادر إلى بعض الأذهان أن الحديد قد تكون في باطن الأرض بفعل الحرارة الموجودة هناك، وهذا خطأن وذلك لأن الحديد الموجود في باطن الأرض قد أنزلق نحو باطن الأرض خلال نشأتها، حيث كانت الأرض منصهرة، فتحركت العناصر الثقيلة (من حديد ونيكل) إلى مركز الأرض بفعل الجاذبية، وأننا لن نستطيع أن نستخرج هذا الحديد إلا بعد أن تلفظ الأرض بعض من تلك الخيرات الموجودة في باطنها خلال أنشطتها الجيولوجية، وهذه رحمة من الله على عباده ونعمة من نعم النشاط الجيولوجي للأرض عليهم.
أما عن تكوين تلك العناصر، فقد نستطيع أن نكون الهليوم من الهيدروجين، والكربون من الهليوم، والأكسجين من الكربون، والحديد من السليكون، وهكذا ولكن يحتاج إلى ظروف حرارية جبارة لا تتوفر في باطن الأرض..!!
إن شمسنا برغم ما تمتلكه من طاقة جبارة في لبها لا تستطيع أن تكون إلا قدراً يسيراً من تلك العناصر. وتحديداً، فإن شمسنا لن تتمكن في كل مشوار حياتها أن تنتج عناصر سوى الهليوم والكربون والأوكسجين، أما العناصر الأثقل فإنها لا تتكون إلا في النجوم الأكبر من شمسنا.
وقد حاول بعض العلماء القدامى أن يخدعوا حكامهم فأوهموهم أنه يستطيعون تحويل الحديد إلى ذهب، وبالطبع فإنهم لم يفعلوا ولكن يستطيع أي إنسان أن يفعل ذلك، ولكن النجوم فقط هي التي تستطيع ذلك بما أودع الله فيها من قدرات جبارة.
وقد يتبادر إلى الذهن سؤال آخر هو : إذا كان الحديد عبارة عن واحد من تلك العناصر التي بثتها النجوم في سحابة المنظومة الشمسية، فلماذا الإشارة هنا فقط إلى الحديد؟ هل للحديد ميزة خاصة تجعل الإشارة إليه ذات مغزى؟
والإجابة هي : إن للحديد يمثل مرحلة مهمة في التفاعلات النووية التي تتم داخل النجوم الكبيرة، فتفاعلات الهيدروجين النووية تنتج هليوم، كما تخرج طاقة من الشمس.
وإذا دخلت الشمس في مرحلة جديدة لكي يتكون الكربون من الهليوم، فإن درجة حرارتها سترتفع أكثر، فيصبح مقدار ما تبثه من الطاقة أعلى بكثير من ذلك الذي تبثه الآن.
وهكذا مع تقدم النجوم مرحلة إلى أخرى من حيث التفاعلات النووية، فإن درجة الحرارة ترتفع، ومقدار ما تبثه من طاقة يزداد.
أما في نجم ما من تلك النجوم الجبارة فإن التفاعل النووي الذي ينتج الحديد يحتاج قدر هائل من الطاقة، يزيد عما ينتج من طاقة بعد التفاعل، ومن هنا فإن هذا التفاعل يؤدي إلى برودة النجم نتيجة تكوين الحديد. وينتج النجم في تلك المرحلة كميات هائلة من الحديد، وبالتالي تحدث برودة سريعة، وبالتالي ينكمش انكماشاً شديداً في فترة زمنية وجيزة(تقدر بحوالي 10 آلاف ثانية، أي أقل من ثلاث ساعات )!!
نعم في ثلاث ساعات، فقط، تنكمش مادة النجم نحو مركزه لتتكسر الذرات وتلتحم الإلكترونات مع البروتونات وتتحول إلى نيوترونات فيصبح أغلب مادة لب النجم عبارة عن منطقة من النيوترونات فقط، وعندئذ تكون الذرات قد اختفت في هذا الجزء نهائياً، وتحولت كل المادة إلى نيوترونات، ومن ثم يعرف النجم في تلك المرحلة(بالنجم النيوتروني) وتتقارب النيوترونات حتى تصل إلى مراحله تصبح فيها القوى الموجودة بين النيوترونات وبعضها أقوى من قوة الجاذبية، فيتوقف الانكماش في اللب بشكل سريع، فتحدث صدمة عكسية جبارة تؤدي إلى حدوث انفجار (السوبر نوفا) ، وهو من أكبر الانفجارات النجمية التي عرفتها البشرية في عصرنا الحديث.
المهم إنه في هذه القصة السالفة يمثل الحديد عود الثقاب الذي يشعل النجم حتى يتحول إلى (السوبرنوفا).
ومن هنا نشعر، وفي ظل ما توفر لدينا من معلومات عن تلك الآيات الكونية (من سوبرنوفا ونجوم نيوترونية نابضة) أن الحديد له منزلة خاصة تستحق أن يشار تحديداً، لما له من دور خطير، في تطور النجوم وفي حدوث الأنفجارات النجمية في آخر حياة تلك النجوم الكبيرة.
أ . د /محمد صالح النواوي