{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ}
متى يرضى الكفار عن المؤمنين ؟
قال تعالى: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) البقرة: 120
يخبر الله رسوله ، أنه لن ترضى عنه اليهود ولا النصارى، حتى يتبع ملتهم، ويأمره أن يواجههم بالثبات على الحق، ويخاطبهم بأن هدى الله هو الهدى، ويهدده بأنه إن اتبع أهواءهم، فلن يجد أحداً ينصره من عذاب الله.
والمقصود من هذا الخطاب الأمة، لأن الرسول ملتزم بهدى الله، ولا يُتصور منه اتباع أهواء اليهود والنصارى، فالخطاب في ظاهره للنبي ، ولكنه في الحقيقة خطاب تحذيري من الله لكل فرد من أمته.
ويمكن أن نأخذ من الآية الحقائق التالية :
1- اليهود والنصارى غاضبون على رسول الله ، وعلى كل مسلم من أمته، لأنه على حق، وهؤلاء يكرهون كل من كان على حق.
مع أن هؤلاء اليهود والنصارى كافرون ضالون ، والله غضب عليهم ولعنهم، بسبب كفرهم، وبسبب بغضهم لأوليائه.
2- إنهم لن يرضوا عن أي مسلم إلا إذا اتبع ملتهم، ودخل في دينهم، وصار يهودياً أو نصرانياً، أو على الأقل تخلى عن الإسلام، وترك الهدى، وصار ضالاً ضائعاً. حيران تائهاً، لا دين له ولا عقيدة ولا هوية.
وهذا معناه : أننا إذا رأينا اليهود والنصارى يحبون أحداً من المسلمين، أو يرضون عنه، ويمدحونه، فلا بد أن نتساءل عن ثباته على الإسلام والتزامه به ! لأنه لو كان ملتزماً بالإسلام حقاً، لما أحبه هؤلاء الكافرون، ولما رضوا عنه، أو أثنوا عليه ومدحوه.
3- تفسر لنا الآية سبب ذم اليهود والنصارى للعلماء والدعاة والقادة المجاهدين، من المسلمين المعاصرين، حيث يوجهون لهم اتهامات عديدة، بالتطرف والعنف والإرهاب والإفساد والتخريب، ويعلنون عليهم الحرب !.. بينما يرضون عن فئة أخرى من المسلمين ، يمدحونهم وينسّقون معهم ! والقرآن يكشف عن سر كرههم للفريق الأول، ورضاهم عن الفريق الثاني .
ولا بد أن نوقن باستحالة حصول مؤمن صالح ملتزم بالإسلام، على رضا ومحبة اليهود والنصارى، ولا يهمه ذلك، لأنه إن رضوا عنه شُك في دينه.
أخطر صور الموالاة الكفرية في هذا العصر
من نواقض الإسلام الخطيرة، ومبطلاته الكبيرة، موالاة الكفار من اليهود، والنصارى، والهندوس، والبوذيين، والشيوعيين، ومن شابههم.
فموالاة الكافرين محادَّة لرب العالمين، وخروج عن شرعة سيد المرسلين، وخذلان لإخوة العقيدة والدين.
لم يبتل الإسلام في عصر من عصوره بأشد ولا أخطر من معاداة المسلم لأخيه المسلم، وموالاة الكافر ومشايعته ومصانعته، والتعاون والتنسيق معه، بل والوقوف معه في خندق واحد لضرب الإسلام وإذلال أتباعه، وانتهاك كرامتهم، وغزو ديارهم.
لقد تجلت خطورة موالاة أعداء الدين بصورة ليس لها شبيه ولا مثيل في الحرب الصليبية التي تقودها أمريكا وربائبها من الكفار، وعملاؤها من المنتسبين إلى الإسلام، تحت مظلة الاتحاد اليهودي الكنسي ، بضغط من اللوبي الصهيوني ، وبغرض القضاء على الإسلام وهيمنة أمريكا على كل العالم، حيث سار الجميع في فلكها، وأصبح هدفهم خطب ودها من حكام المسلمين وغيرهم ، سوى ثلة وطائفة لا تزال ظاهرة على الحق، مدافعة عنه، لا يضرها كيد الكائدين، ولا مخالفة المخالفين، ولا خذلان المخذلين إلى أن تقوم الساعة كما أخبر الصادق الأمين.
ولقد حذر الله تعالى ورسوله والسلف الصالح من موالاة الكافرين ومظاهرتهم، سيما على المسلمين، وبين الشارع الحكيم أن في ذلك ردة وخروج عن الدين ، مهما كان الدافع لذلك :
1. قوله تعالى: "لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً" أل عمران / 28 .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ الْيَهُودَ لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ وَالصَّدَاقَةِ وَالْحِلْفِ وَالْجِوَارِ وَالرَّضَاعِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ يَنْهَاهُمْ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ عَلَيْهِمْ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يُصَافُونَ الْمُنَافِقِينَ ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ) أَيْ : أَوْلِيَاءَ وَأَصْفِيَاءَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ ،
وَبِطَانَةُ الرَّجُلِ : خَاصَّتُهُ تَشْبِيهًا بِبِطَانَةِ الثَّوْبِ الَّتِي تَلِي بَطْنَهُ لِأَنَّهُمْ يَسْتَبْطِنُونَ أَمْرَهُ وَيَطَّلِعُونَ مِنْهُ عَلَى مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ .
ثُمَّ بَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي النَّهْيِ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ ،
(لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا ) أَيْ : لَا يُقَصِّرُونَ وَلَا يَتْرُكُونَ جُهْدَهُمْ فِيمَا يُورِثُكُمُ الشَّرَّ وَالْفَسَادَ ، وَالْخَبَالُ : الشَّرُّ وَالْفَسَادُ ،
وَنُصِبَ " خَبَالًا " عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَنَّ يَأْلُو يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَقِيلَ : بِنَزْعِ الْخَافِضِ ، أَيْ بِالْخَبَالِ كَمَا يُقَالُ أَوْجَعْتُهُ ضَرْبًا ،
( وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ ) أَيْ : يَوَدُّونَ مَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ مِنَ الضُّرِّ وَالشَّرِّ وَالْهَلَاكِ . وَالْعَنَتُ : الْمَشَقَّةُ ،
( قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ ) أَيِ : الْبُغْضُ ، مَعْنَاهُ ظَهَرَتْ أَمَارَةُ الْعَدَاوَةِ ،
( مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) بِالشَّتِيمَةِ وَالْوَقِيعَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ ، وَقِيلَ : بِإِطْلَاعِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ ،
( وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ ) مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْغَيْظِ ، ( أَكْبَرُ ) أَعْظَمُ ،
( قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ )
( هَا أَنْتُمْ ) هَا تَنْبِيهٌ وَأَنْتُمْ كِنَايَةٌ لِلْمُخَاطَبِينَ مِنَ الذُّكُورِ ،
( أُولَاءِ ) اسْمٌ لِلْمُشَارِ إِلَيْهِمْ يُرِيدُ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ،
( تُحِبُّونَهُمْ ) أَيْ : تُحِبُّونَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ الَّذِينَ نَهَيْتُكُمْ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي بَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ وَالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ ،
( وَلَا يُحِبُّونَكُمْ ) هُمْ لِمَا بَيْنَكُمْ مِنْ مُخَالَفَةِ الدِّينِ ، قَالَ مُقَاتِلٌ : هُمُ الْمُنَافِقُونَ يُحِبُّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ لِمَا أَظْهَرُوا مِنَ الْإِيمَانِ ، وَلَا يَعْلَمُونَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ،
(وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ) يَعْنِي : بِالْكُتُبِ كُلِّهَا وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِكِتَابِكُمْ ،
( وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا ) وَكَانَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ ( عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ) يَعْنِي : أَطْرَافَ الْأَصَابِعِ وَاحِدَتُهَا أُنْمُلَةٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا ، مِنَ الْغَيْظِ لِمَا يَرَوْنَ مِنَ ائْتِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ وَاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِمْ ،
وَعَضُّ الْأَنَامِلِ عِبَارَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ وَهَذَا مِنْ مَجَازِ الْأَمْثَالِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عَضٌّ ،
( قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ) أَيِ : ابْقَوْا إِلَى الْمَمَاتِ بِغَيْظِكُمْ ،
( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) أَيْ : بِمَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ .
2. وقوله: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ(118)هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(119)" آل عمران .
قَالَ الثَّوْرِيُّ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : لَيْسَ التَّقِيَّةُ بِالْعَمَلِ إِنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ ، وَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : إِنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ ، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ وَالضَّحَّاكُ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ .
وَيُؤَيِّدُ مَا قَالُوهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ) النَّحْلِ : 106
قال القرطبي رحمه الله في تفسيرها : (أكد الله تعالى الزجر عن الركون إلى الكفار، وقال: نهى الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم، ويقال: كل من كان على خلاف مذهبك - العقدي - ودينك فلا ينبغي لك أن تحادثه).
3. وقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" المائدة / 51.
4. وقوله: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ" الممتحنة / 1.
5. وعن أنس قال : "لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ غَرِيبًا" رواه الترمذي ، فسَّره الحسن رحمه الله بقوله: "أراد عليه السلام لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم ولا تنقشوا في خواتيمكم محمداً".
6. لقد نهى رسول الله عن استظهار المسلمين بالكافرين فكيف باستظهار المسلمين بالكافرين على المسلمين ؟!
فقد قال لمشرك أراد أن يخرج معه في غزاة : "لا نستعين بمشرك"، وقال لعبادة بن الصامت وكان له حلف من اليهود في أول الإسلام يوم الأحزاب ، عندما قال عبادة : يا نبي الله إن معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيتُ أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو؛
فأنزل قوله تعالى : "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" الآية.
7. وقال عمر رضي الله عنه : لا تستعملوا أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرِّشا، واستعينوا على أموركم ورعيتكم بالذين يخشون الله تعالى.
وقيل لعمر إن ها هنا رجلاً من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه، ولا أخط بقلم، أفلا يكتب عندك ؟ فقال : لا آخذ بطانة من دون المؤمنين.
وعندما استكتب أبو موسى الأشعري ذمياً كتب إليه عمر يعنفه، وقال عمر له: لا تدنهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله، ولا تأمنهم وقد خونهم الله.
فإذا كان هذا في اتخاذ كاتب ، فكيف باتخاذ الكفار مستشارين وأمناء وأصدقاء وحلفاء ؟!!
قال القرطبي رحمه الله بعد أن أورد تلك الآثار عن عمر رضي الله عنه: (وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء، وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء).
لقد ضعفت عقيدة الولاء والبراء عند كثير من المسلمين في هذا العصر، بل وانعدمت بالكلية عند البعض الآخر، وذلك لجهلهم بعقيدة التوحيد، حيث أضحى جل المسلمين لا يميز بين ولاء وبراء، بل قد يتبرأ ممن تتحتم عليه موالاتهم، ويوالي من تجب عليه معاداتهم، واستحدثت كثير من صور الموالاة الكفرية التي يتسابق إليها البعض مسابقة، لنيل شيء من حطام الدنيا الفاني، وهو لا يدري أنه باع آخرته بدنياه، بل بدنيا غيره.
وقد أصبح الإنسان يعجب والله من صنيع هؤلاء أكثر من عجب الأول القائل :
عجبتُ لمبتاع الضلالة بالهدى وللمشتري دنياه بالدين أعجب
وأعجب من هذين من باع دينه بدنيا سواه فهو من ذين أعجب
فموالاة الكفار والتجسس والعمالة لهم ومظاهرتهم قبيحة من كل من انتسب إلى الإسلام، سيما إذا صدرت ومارسها من ينتسب إلى العلم.
أخطر صور الموالاة الكفرية في هذا العصر
صور الموالاة الكفرية كثيرة جداً، ولكن سنشير في هذه العجالة إلى أكثرها ضرراً وأعظمها خطراً، نصحاً لله نعالى ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، لجهل بعض من يمارسها بخطورتها، لعل الله ينفع بذلك، فالذكرى تنفع المؤمنين، وتعذر الناصحين، وترفع غضب رب العالمين .
المؤمنون فوق الكفار إلى يوم القيامة
قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) البقرة / 212
تُعرفنا الآية على حقيقة ما عليه الكافرون، فهم لا يؤمنون بالآخرة، ولذلك زينت لهم الحياة الدنيا، وهم يؤمنون بها، ويعملون لها، وهي هدفهم وسعيهم، ومحط اهتمامهم، تجدهم حريصين عليها، مقبلين على ملذاتها ومتعها وشهواتها.
ونظرتهم للمؤمنين تقوم على السخرية والتهكم والاستهزاء، لا يعجبهم المؤمنون في ترفعهم عن متع وشهوات الدنيا، وفي نظرتهم للآخرة، وفي سعيهم لها، وفي خوفهم من الله، الذي يدفعهم إلى ترك ما حرم الله.
وشتان بين المؤمنين والكافرين، فالفريقان لا يستويان، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وذكرت الآية حقيقة قرآنية قاطعة، وقدمت وعداً قرآنياً منجزاً: (وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
المؤمنون المتقون فوق الكافرين، ويبقون فوقهم إلى يوم القيامة. هذا ما قدره الله وأراده، ولا رادّ لأمره سبحانه.
والمراد بالفوقية هنا فوقية معنوية نفسية، وليست فوقية مكانية مادية. إنها فوقية تملأ شعور المؤمنين،
هم المتميزون على الكافرين في كل شيء،
متميزون بدينهم ومنهاجهم ،
ومتميزون بمهمتهم ووظيفتهم ودورهم ،
متميزون بأفكارهم وتصوراتهم ،
وبسلوكهم وتصرفاتهم، وبآمالهم وتطلعاتهم واهتماماتهم.
متميزون في دنياهم وآخرتهم..
ولهذا يوقن المؤمنون أنهم أفضل من الكافرين، وأنهم الأعلون المتفوقون.
كما قال تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) آل عمران / 139
وشعور المؤمنين بأنهم الأعلى، وأنهم فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة لا يعني تكبرهم على غيرهم، لأن التكبر محرم في دين الله.
إنما يعني اعتزازهم بالإسلام ، وافتخارهم بالانتساب إليه ، وشكرهم لله على ما ميزهم به ،
وحرصهم على الالتزام به ، وقيامهم بواجب الدعوة إليه ، وتقديم نوره إلى الذين يتخبطون في ظلمات الكفر والجاهلية.
كما يعني هذا استغناؤهم بالإسلام ، واكتفاؤهم به ، ويقينهم بعدم حاجتهم لغيره ،
ولذلك لا يأخذون من الكافرين شيئاً من أفكارهم ومذاهبهم ، وقوانينهم وقيمهم وعاداتهم ، وسلوكياتهم وتصرفاتهم ، لأن هذا كله نتاج كفرهم ، وانغماسهم في الحياة الدنيا وإنكار الآخرة .
لا بد أن يشعر المؤمنون بأنهم فوق الذين كفروا، فلا يجبنوا ولا يضعفوا أمامهم، ولا يذلّوا لهم.
وقد حقق الله للمسلمين وعده، فجعلهم فوق الذين كفروا، حيث نصرهم عليهم، ومكن لهم في الأرض.
شرط كون المؤمنين فوق الكفار
وكون المسلمين فوق الذين كفروا مشروط بالتزامهم الصادق الجاد بالإسلام ، وتطبيقه والحركة به ،
فإن أخلوا بهذا الشرط فقدوا هذه الصفة، ونزلوا عن هذه المنزلة، ولا يرتقون إليها إلا إذا عادوا إلى إسلامهم.
والمسلمون في هذا الزمان ليسوا فوق الذين كفروا، وإنما صاروا في أوضاعهم العامة دون الذين كفروا، وهم الذين جنوا بذلك على أنفسهم، وهم السبب في ما أصابهم، لأنه انفكت صلة كثيرين منهم بالإسلام، وضعفت صلة آخرين به، وبذلك لم يلتزموا بشرط الفوقية المشروط.
ونحن على يقين أن المسلمين سيعودون عودة جادة للإسلام، وبذلك يعودون إلى المنزلة العالية التي وضعهم الله فيها، ورفعهم إليها، وجعلهم فوق الذين كفروا.
نحن جازمون أن هذا الوعد القرآني سيتحقق لهم في المستقبل، عندما يغيرون ما بأنفسهم من سوء، كما تحقق هذا الوعد لآبائهم الصالحين!.