{{اللُهم صُلِ ع محٌمد وع آِل محٌمد وعجٌل فرٍٍج قآئٌٍم آل محٌٍِمد }}
(( أهل الشك وأهل اليقين ))
(1) من أين جئنا والى أين نذهب ؟
لماذا جئتُ الى هذه الحياة ؟ والى أين أذهبُ بعد موتي ؟
يقول أحد دعاة الشك والحيرة في عصرنا ، الشاعر إيلِيَّا أبي ماضي:
جئت لا أعلم من أينَ ، ولكني أتيتْ
ولقد أبصرتُ قُدَّامي طريقاً فمشيتْ
وسأبقى ماشياً إن شئتُ هذا أم أبيتْ
كيف جئتُ ؟ كيف أبصرتُ طريقي ؟ لست أدري !
ويقول أصحاب اليقين:دَلَّنِي عقلي على أن لهذا الكون صانعاً خلقه وخلقني، ودَلَّني عقلي على أن كل عمله متقنٌ هادف ، ومنه وجودي المتقن الهادف .
أنا عندما أرى جهازاً أو زجاجةَ عِطْرٍ ، أبحث عن عبارة: (صُنِعَ في..) لأعرف من أنتجها ، فلماذا لا أقرأ في هذا الكون عبارة: (صنع في..) !
لماذا أُعْجَبُ بلوحة غروب الشمس التي رسمها فنان ، ولا أُعجب بلوحة غروب الشمس الحية ، التي يرسمها كل يوم ، وفي كل بلد: رب الفنانين .
لماذا أقرأ عبارة: (صنع في..) على لوح الشوكولا، وعلبة الدواء ، والقميص ، ولا أقرؤها على جبيني ، وجبين الآباء ، والأمهات ، والأطفال ؟
لماذا لا أقرؤها في حركة الذرة والمجرة ، وفي تكوين الألكترون والبروتون ؟
أيها الصانع الحكيم والخالق العظيم.. آمنتُ بك ، فأنتَ حقيقة أوضحُ من هذا الكون الذي خلقته ، وأقوى وجوداً من وجودي !
أنت فقط.. تستطيع أن تدلني على مستقبلي ، وهدفك من خلقي .
(2) وجوه الخطأ والصواب في مقولة أبي ماضي
إن مقولة: جئت لا أعلم من أين ؟ فيها وجوه من الصحة ، والخطأ .
ففيها مقولة: إني أحب أن أعلم ، وهي صحيحة ، فكلنا نحب أن نعرف .
وفيها مقولة:لي الحق على من أوجدني أن يعرفني . وفيه وجهٌ من الخطأ . فما هو المستند القانوني لهذا الحق؟ وهل إذا صنعتَ تمثالاً ، أو جهاز كمبيوتر ، يجب عليك أن تُفْهِمَهُ مَن أنت ومَا هو ، وكيف جاء ، ولماذا جاء ؟
ثم.. هل يمكن للإنسان أن يعرف كل ما يريد ، عن خالقه ، وعن خلقه ، ومسار وجوده ، ولماذا لاتكون القضية وتفاصيلها أكبر من طاقة استيعابه؟
نعم ليس الإنسان جهازاً ميتاً ، لكن طاقة ذهنه وعقله محدودة، وغاية ما يستطيع أن يستوعبه جزءٌ من جزء ، من خطط الله تعالى وعلمه المطلق .
وقد بعث الله لهذا الإنسان أنبياء قدموا له الكثير .. لو استوعب .
كما تضمنت مقولة أبي ماضي: التشكيك في النظريات التي سمعها عن وجود الإنسان وهدفه ، وهذا صحيح الى حد كبير ، لأن أكثر النظريات المطروحة غير مقنعة للإنسان العادي ، فضلاً عن المثقف !
فلو سألت علماء الدين المسلمين والمسيحيين واليهود: لماذا خلقنا الله ، والى أين نذهب ؟ لوجدت في إجاباتهم كثيراً من الكلام الإنشائي ، الخالي من العلم واليقين ، وقليلاً من العناصر المقنعة .
يقول بعضهم: خلقنا لنعبده: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالآنْسَ إِلالِيَعْبُدُونِ} . وتسألهم: وهل هو محتاج الى عبادتنا ؟ فيقولون: لا. وينقضون جوابهم !
ويقولون: جاء في حديث قدسي: كنتُ كنزاً مخفياً ، فأحببتُ أن أعرف، فخلقتُ الخلق لكي أعرف .
وتسألهم: هل هو عز وجل بحاجة لأن يُعرف؟وهل عدم معرفة الإنسانوأهل الأرض له تجعله مخفياً ؟ وهل يفكر الله سبحانه هكذا ، مثلنا ؟!
ويقول لك بعض المتعمقين: إن اللام في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالآنْسَ إِلالِيَعْبُدُونِ} . ليست لام الغاية بل هي لام الطريق الى الغاية ، أما لام الغاية فهي في قوله تعالى:{ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ }.والرحمة هي العطاء الإلهي للإنسان ليتكامل ، والعبادة طريق الإستفادة من هذه الرحمة .
فتجده منطقاً جديداً مقنعاً ، فلا هو عز وجل بحاجة لأن يُعرف ، ولا بحاجة الى عبادتنا . بل خلقنا لنتكامل باختيارنا، ونحقق ذواتنا بإرادتنا ، ونجعلها صالحة للخلود في النعيم . وهو عز وجل يدلنا على كل ما يلزمنا لذلك ، وهذه هي عبادته عز وجل .
وتسأل: وماذا كان سيحدث لو لم يخلقنا ؟
والجواب: لا يحدث له شئ سبحانه ، فهو الغني المطلق ، عنا وعن العالمين .
لكن عندما يكون في علمه عز وجل أنه يمكن أن يخلق مخلوقاً يتكامل بإرادته ، وبصراع الخير والشر، وليس في خلقه ظلمٌ له ولا لغيره ، فلماذا لايخلقه ؟!
وتسألني: هذا يعني أن مشروع الحياة كله ، كان من أجل الناس الذين علم الله أنهم سيتكاملون ، فلماذا خلق الكافرين، وقد علم أنهم لن يتكاملوا !
والجواب: أن الكافرين مُنِحت لهم الفرصة للتكامل فلم يستفيدوا منها ، فلم يظلمهم الله تعالى بل ظلموا أنفسهم ، لأنهم أبوا أن يحققوا ذواتهم بشكل صحيح أو أصروا على أن يحققوها بطريقة خاطئة !
ولهذا فإن فَتْحَ مدرسة الحياة ضرورةٌ ، ليتكامل من يريد التكامل: مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ . وليس فيه ظلم لمن يأبى التكامل .
وكلما كان فعل الله تعالى رحمةً وعدلاً لا ظلم فيه ، وجب أن يقع .
(3) أين المشككون عن يقينيات العقل البشري؟
قلت لصاحبي: دعك من التشكيك.. وابدأ من اليقين وقِفْ على أرضٍ صلبة ! أنت تفكر فأنت موجود . وهذا الكون متقنٌ من ألفه الى يائه ، ومن ذراته الى مجراته ، ونحن نكتشف كل يوم من وجوه إتقانه ما يدهشنا .
هذا الكون ، له خالق عظيم ، وصانع ، ومهندس ، ومدير . فلماذا تعاند ؟!
قال: أنا معك في كل ذلك ، لكن الكلام فيما بعده .
قلت له: إصبر ولا تطوِ المراحل طيَّ المجادل ، فأنت معي في أن الإنسان يملك ثروة من اليقينيات ، منها أنه موجود ، وأنه مخلوق لخالق عظيم ، ومصنوع لصانع حكيم. ومنها ، كل بدهيات العقل، مثل أن الكل أكبر من الجزء، والمعلول يحتاج الى علة ، وأن النقيضين لايجتمعان ، وأن الشئ الذي له عُمْر لم يكن ثم كان..
إن يقينياتك هذه رأس مالك ، وأرضك الصلبة ، فأحسن التعامل معها ، والكسب بها ، ولا تنقل قدمك منها إلا الى أرض صلبة .
تَعَرَّفْ على ماشئت من ظنونٍ واحتمالات ، وكن خَصْبَ الخيال ماشئت ، لكن أَبْقِ كل ما ليس بيقين في عالمه ، وإياك أن تقف عليه ، لأنه يهوي بك !
كل القضية ياصاحبي هنا: هل أرسل الينا صانع الكون وصانعنا ، من يشرح لنا هدفه فينا ، ويهدينا طريق تكاملنا ؟
هل تدلنا ثروتنا الطبيعة من اليقينيات على الأنبياء المبعوثين من الله ، أم لا ؟
فإن آمنتَ بالأنبياء(عليهم السلآم) فاسألهم عن أهداف الله فيك ، لأنهم أصحاب النوافذ المفتوحة على الغيب . وإن لم تؤمن بهم، فأنت تؤمن بالخالق الصانع الحكيم تبارك وتعالى ، لكنه حسب زعمك لم يخبرك بهدفه من خلقك ، ولا يجب عليه أن يفعل ، فَقَدِّرْ أنت الهدف من خلقك تقديراً ، ولو بالظن ، وانسجم معه .
وإياك أن تقع في المحال فتقول:إن خالقك وخالق هذا الكون مُقصرٌ ظالم ، كان يجب علىه أن يبين لك الهدف ، وقد قَصَّرَ في حقك ولم يفعل !
قال صاحبي: كلامك منطقي قوي ، لكن ألا ترى جمال شعر إيلِيَّا أبي ماضي:
وطريقي ما طريقي ؟ أطويل أم قصيرْ ؟
هل أنا أصعد أم أهبط فيه وأغورْ ؟
أأنا السائر في الدرب أم الدرب يسير
أم كلانا واقفٌ والدهر يجري ؟..لست أدري
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجودْ ؟
هل أنا حُرَّ طليقٌ أم أسيرٌ في قيود ؟
هل أنا قائدُ نفسي في حياتي أم مَقُود ؟
أتمنى أنني أدري ولكن...لستُ أدري
قد سألت البحر يوماً هل أنا يا بحر منكا ؟
أصحيحٌ ما رواه بعضهم عني وعنكا ؟
أم ترى ما زعموا زوراً وبهتاناً وإفكا ؟
ضحكت أمواجه مني وقالت.. لست أدري
أيها البحر أتدري كم مضت ألفٌ عليكا
وهل الشاطئُ يدري أنه جاثٍ لديكا
وهل الأنهارُ تدري أنها منك إليكا
ما الذي الأمواجُ قالت حين ثارت.. لست أدري
قيل لي في الدير قومٌ أدركوا سرَّ الحياةْ
غيرَ أني لم أجدْ غيرَعقولٍ آسناتْ
وقلوبٍ بَلِيَتْ فيها المنى فَهْيَ رُفاتْ
ما أنا أعمى فهل غيريَ أعمى؟.. لست أدري
قيلَ أدرى الناسِ بالأسرارِ سُكّانُ الصوامعْ
قلتُ إن صحَّ الذي قالوا فإنَّ السرَّ شائعْ
عجباً كيف ترى الشمسَ عيونٌ في براقعْ
والتي لم تتبرقعْ لا تراها.. لستُ أدري
قلتُ له: نعم ، إن شعره جميل ، لكن لا تحمله ما لايحتمل !
فالشاعر لم يقل إنه ملحد ، ينكر وجود الخالق الحكيم سبحانه ، بل قال إنه لايعلم من أين أتى ، والى أين هو ذاهب ؟
لا يدري.. لكن إذا لم يدرِ إيلِيَّا ، فهل كل العالم لا يدري !
وإذا لم يجد إيلِيَّا الجواب.. فهل معناه أنه لا يوجد !
وإذا كان شك هذا الشاعر يعجبك ، فلماذا لايعجبك جواب الشاعر الشيخ عبد الحميد السماوي(رحمه الله) ، ومنه قوله:
أفكونٌ فوق كونٍ متوازي الحركات
شاسعُ الأبعاد رَحْبٌ متداني الحلقاتْ
مفعمٌ بالنور مغمورٌ بأسرار الحياة
صادرٌ عن غير قصد من مدير..ليس يدري!
أسمعته نبراتُ الكون لغزاً أبديَّا
و أرتْهُ شَرَفَ الغاية فاجتاز المُغَيَّا
فرأى العُدْم وجوداً ورأى اللاشئ شَيَّا
فتراه يستمد الفيض ممن..ليس يدري!
جاء كي يعبث بالعقل ويهزا بالدليل
و يرى كل جميل ماثل غير جميل
يتحدى كل علم و يداجي كل جيل
فتراه كلما استنطق شيئاً..ليس يدري!
ليتك استوقفت أوهامك لو أغنتك ليتْ
أنا لا أدري إلى أين فهل أنت دريت؟
ملأوا دربك شوكاً فأملِ مصباحك زيتْ
و تخطى فعسى أن يهتدي من..ليس يدري!
ليته استعرض لما استعرض الكون نظامه
ليته أترع من فلسفة التكوين جامه
أينما يتجه العقل يرى الله أمامه
أينما يرعاه يلقاه ولكن..ليس يدري!
أو جواب الشاعر الشيخ محمد جواد الجزائري(رحمه الله) ، ومنه قوله:
ضَمَّنِي الكونُ ومالي مُنْيَةٌ كانت لديهِ
لا ولا راقَ لعيني يومَ أقبلت عليه
دفعتني حكمةٌ من عالم النور إليه
أنا لا أجهل مِن أيـن أتيت..أنا أدري
إنَّ هذا الكون يسري سيره نحو الكمالْ
يترقّى في حدود السـيرِ من حالٍ لحال
ما على المنطق هذا السـير شكٌّ أو خيال
وعليه سنن الكون تمشَّـت..أنا أدري
فوق تيَّارك يا بحـرُ أرى بحراً سَعِيَّا
أزليّاً لا يباريـه.. قديمٌ أبديـّا
شأنه الفيض ولولا فيضه لم تك شَيَّـا
كيف كان الفيض حتى كنت شيّـاً.. أنا أدري
أيُّها الشّـاطئ ما أخفـى وما أظهر سرَّك
دَلَّـني معناك لمـا أظهر المنطق أمرك
أن بحراً ليس فيه شاطئٌ أبدع بحرك
كيف كانت حكمة الإبـداع فيه.. أنا أدري.
إن المشكلة يا صاحبي في المشككين أنفسهم ، لا في الكون ولا في هدف صانعه .
وإن الشك ليس عيباً ولا نقصاً ، لكن سوء التعامل معه ، وبه ، هو النقص !
فسوء التعامل به: عندما يحوله صاحبه الى دعايةٍ لمذهب التشكيك ودعوةٍ اليه .
وسوء التعامل معه: عندما يجمد عليه صاحبه ويقف ويُحْرِنُ ، ولا ينقل قدمه الى أرض اليقين ، حتى لو رأى يقيناً يملك كل المبررات الموضوعية للتصديق .
تقول إن ديكارت صاحب مدرسة: الشكطريق اليقين، وهو خطأ شائع! فنحن أصحاب هذه المدرسة ، قبل أن يولد ديكارت بقرون !
وإن أردت التوثق من ذلك فاقرأ كتب علمائنا الكلامية ، ثم اقرأ بحوث علمائنا الأصولية ، لتجد الشك عندهم مفتاحاً ذهبياً .
جاء وفد من علماء من الفاتيكان الى النجف ، وزاروا المرجع الراحل السيد أبو القاسم الخوئي+ ، وجرى الحديث عن المعرفة والشك واليقين ، فداعب السيد الخوئي أحدهم وسأله: أنتم بما أثبتم وجود المسيح(علية السلآم ) وقد كُتِبت هذه الأناجيل بعده بقرون ؟
قال: بالنصوص التاريخية . فأجابه السيد: هذه النصوص لاتوجب أكثر من الظن ، ولا توجب حصول اليقين بوجوده! قال:وبالشياع عند مختلف الشعوب .
قال له السيد:والشياع لا يوجب أكثر من الظن ، لأنه قد يكون مبنياً على خبر روجته دولة أو جهة ، وأخذه الناس وتلقاه عنهم آخرون جيلاً فجيلاً !
قال: لا بأس ، إسمح أيها السيد أن أسألك: هل تؤمن أنت بوجود المسيح(علية السلآم ) ؟
قال له السيد:نعم ، أنا على يقين من وجوده(علية السلآم ) .
قال:إذن من أين حصلت على هذا اليقين ؟
قال:حصلت عليه من شخص أخبرني وأنا متيقن من صدقه ، وهذا الشخص هو محمد بن عبد الله(صلِ الله علية وآلة وسلم ) ، فقد ثبت عندي صدقه ونبوته ، وأن الله أنزل عليه قرآناً ، فكل ما قاله القرآن ، أو ثبت أن محمداً قاله ، فهو عندي يقين.
وهنا سكت محاور السيد وزملاؤه ، وظهر عليهم التعجب !
ثم تحدثوا في التعاون العلمي بين المراكز الدينية ، وتبادل الزيارات .
ومن حقهم أن يتعجبوا من هذا المنهج الذي يُقَيِّم كل وسائل إثباتهم لوجود المسيح(علية السلآم ) بأنها ظنية ، ويحصر طريق اليقين به بتصديق نبينا(صل الله علية وآلة وسلم ) .
المسألة التي تواجه إيلِيَّا أبي ماضي يا صاحبي وجماعة المشككين: أن يعترفوا بأن المبررات الموضوعية لليقين موجودة في يقينيات العقل ، وفي الوحي ، فلماذا لايستجيبون لها ، فينطلقون معها ومنها ، لتخرجوا من وهدة الشكوك.
أنت والحمد لله تؤمن بالله تعالى ورسوله(صلِ الله علية وآلة وسلم ) وتوالي الأئمة من عترته(عليهم السلآم ) ومعناه: أنك تؤمن بأن عمل الخالق في وحيه للرسل وأوصيائهم ، حقٌّ ، كعمله في الطبيعة ، وبأن يقينيات العقل متسقة مع يقينيات النقل .
{صلوات الله على النبي وآله} ، المفتوحة لهم نوافذ على الغيب ، والذين عِلْمُهُمْ حَقٌّ لا باطلَ فيه ، ويقينٌ لا ظنونَ فيه . لقد أرشدونا الى يقينيات عقولنا، فقال الإمام موسى الكاظم(علية السلآم ) لهشام بن الحكم: ( يا هشام إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة ، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة ، وأما الباطنة فالعقول ).(الكافي:1/16)
وقال أمير المؤمنين(علية السلآم ) : (فبعث فيهم رسله، وواترَ إليهم أنبياءه ، لِيَسْتَأدُوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم مَنْسِيَّ نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويُثيروا لهم دفائن العقول ، ويروهم الآيات المقدرة: من سقفٍ فوقهم مرفوع ، ومهادٍ تحتهم موضوع ، ومعايشَ تُحييهم ، وآجالٍ تفنيهم ، وأوصابٍ تُهرمهم ، وأحداثٍ تتابع عليهم .ولم يُخْل سبحانه خلقه من نبي مرسل ، أوكتاب منزل ، أو حجة لازمة ، أو محجة قائمة . رسلاً لا تقصر بهم قلة عددهم ، ولا كثرة المكذبين لهم . من سابقٍ سُمِّيَ له من بعده ، أو غابرٍ عرفه من قبله .
على ذلك نسلت القرون ، ومضت الدهور، وسلفت الآباء ، وخلفت الأبناء . إلى أن بعث الله سبحانه محمداً ، رسول الله لإنجاز عِدَته وتمام نبوته . مأخوذاً على النبيين ميثاقه ، مشهورةٌ سماته ، كريماً ميلاده .
وأهل الأرض يومئذ مللٌ متفرقة ، وأهواءٌ منتشرة ، وطوائف متشتتة ، بين مشبِّهٍ لله بخلقه ، أو ملحد في إسمه ، أو مشير إلى غيره . فهداهم به من الضلالة ، وأنقذهم بمكانه من الجهالة ). (نهج البلاغة:1/23).
(4)إيلِيَّا أبي ماضي أفضل من الملحد الخليجي والبريطاني!
على أن صاحبك إيليا أفضل من غيره ، فقد رفع راية: لستُ أدري ، وأعلن مذهب الشك في قصة الإنسان ، فهو يقول: لست أدري لماذا خُلقنا ، وما هي الحكمة من وجودنا . ولكنه لم يقل إنه ملحد ، ولم ينف وجود الله تعالى ، بل لم ينف وجود الحكمة من خلق الإنسان ، بل قال إنه بحث عنها فلم يجدها .
أبو ماضي أفضل من دكتور بريطاني ملحد ناقشته في لندن . كان مثقفاً يفهم ويستوعب ، لكنه اتخذ قراراً عنيداً بأن لا يعترف بوجود الله تعالى مهما قُدِّمَ له من أدلة ، لأن ذلك يوجب عليه أن يعترف بأنه مخلوق لذلك الإله ، ومسؤول عن سلوكه أمامه ، وهو يريد أن يكون (إلهاً) غير مسؤول أمام أحد !
وأبو ماضي أفضل من ملحد خليجي ناقشته في شبكة النت ، ثم عرَّفَني إسمه وطلب أن أكتمه ، وكان أعنف من أخيه الإنكليزي ! كان سبب إلحاده أن أستاذه ربَّاه على حب تحقيق الذات على مذهب إمامه نيتشه الذي يدعو الى شخصية الإنسان "السوبرماند" أي الإله ! فوضع في رأسه أن يكونه!
يذكرني هؤلاء بقوله تعالى: (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ) . وبالخوارج المصابين بمرض تحقيق الذات القيادية !
فقد جاء مؤسسهم ابن حرقوص بعد حرب حنين ، ووقف على النبي(صل الله علية وآلة وسلم) وهو يقسم الغنائم فقال له بلهجة الآمر: إعدل يا محمد ! ( البخاري:4/179) !
ثم جاءه إلى المدينة: ( فأقبل حتى وقف عليهم ولم يسلم ! فقال له رسول الله: أنشدتك بالله ، هل قلت حين وقفت على المجلس: ما في القوم أحدٌ أفضلُ مني أو أخيرُ مني؟! قال: اللهم نعم! ثم دخل يصلي ) !(مسند أبي يعلى :1/90) .
فهو "مسلمٌ" جاء الى مسجد النبي(صل الله علية وآلة وسلم) ، ليصلي لله الصلاة التي نزلت على هذا النبي(صل الله علية وآلة سلم ) ، وهو يرى أنه أفضل منه ، ولعله يقول لله في صلاته: إعدل يا رب ، ولا تظلمني ! فلماذا بعثت محمداً نبياً ، وأنا أفضل منه ؟!
فأمثال هؤلاء لايبحثون عن الحق ، بل يقاومون أدلته مهما كانت قوية ، بينما يبحث عنه إيلِيَّا ، وربما يفرح به إذا وجد دليله . (راجع للمؤلف: ثمار الأفكار).
(5)الدكتورة كوفمان(h.kaufman ) أفضل من إيلِيَّا
قال صديقنا الضمري الذي يعيش في برلين: كان عندي محل لبيع التحف ، وكانت تشتري مني امرأة محترمة ، متقدمة في السن ، فجرى بيننا حديث عن الأناجيل وناقشتها فاستمعت اليَّ بإصغاء ، وطلبت المزيد . ثم جرى الحديث عن نبينا(صل الله علية وآلة وسلم ) والقرآن ، فحدثتها ، وكانت تستمع بإصغاء ، وتسأل .
كانت طبيبة ومثقفة . قالت لي يوماً: إن نقدك للأناجيل صحيح ، وعندي نقدٌ لها أكثر مما ذكرت ، وأنا لا أؤمن بها ، ولا بشخصية المسيح التي تقدمها .
وفي يوم قالت لي:يا أحمد إن نبيكم محمد صادق .
وكانت تأتي مع ابن أخيها، ورأت زوجتي وأولادي ، فزارتنا وزرناها في بيتها .
قالت لي يوماً: لقد جاوزتُ الثمانين ولا وَلَد لي ، ولي ابن أخ يطمع هو وأقاربي أن يرثوني ، وأنا أعتبرك أنت وزوجتك وأولادك أولادي وأسرتي ، وقد قررت أن أعطيك ثروتي ، فخذها وابن بيتاً في الأردن ، وأنا أسكن معكم بقية عمري .
قال أحمد: شكرتها وقلت لها: لا أستطيع أن أقبل ذلك .
قالت: خذ مليون مارك هدية مني . فشكرتها وقلت: لا أستطيع .
قالت: خذ لزوجتك وكل ولد مئة ألف ، فشكرتها وقلت: لا أستطيع!
وصديقنا أحمد صاحب طبيعة خاصة في الإباء ، تمتد الى أجداده بني ضمرة ، أولاد عم بني غفار ، قبيلة الصحابي الكبير أبي ذر الغفاري رضي الله عنه .
قلت له هذا إفراطٌ في الإباء ، فقد كان الأحسن لك أن تقبل .
ثم إنك حرمت زوجتك وأبناءك ، فيجب أن تسترضيهم .
قال أحمد: اشتد مرض الدكتورة ودخلت المستشفى . وكنت عندما أزورها تُخرج زوارها ، وفيهم شخصيات كبيرة ، وتحدثني ، وتستمع اليَّ .
كانت مصابة بالسرطان فثقل مرضها ، فقالت لي يوماً: إذهب الى فلان الصيدلي وقل له عن لساني يعطيك حبتين ، وأكتب لك الإسم .
سألتها: وما هي؟قالت: أنا خائفة من الموت ومن شماتة بعض الأقارب ، وأريد أن أنهي حياتي ! فقلت لها: هذا حرام ، ومن قتل نفسه يدخل النار !
فقالت:لا ، الرحمن الرحيم ، لايمكن أن يعذبني على هذا الفعل، ودمعت عيناها . أنا لا أقتل أحداً ولا نفسي ، وإنما أنهي عذابي .
قلت لها:قلت إنك خائفة ، فكيف تخافين وأنت ذاهبة الى الرحمن الرحيم ؟ ألست تؤمنين بالله تعالى وبأنه عادل رحيم ، وتؤمنين بأنبيائه المسيح ومحمد(صل الله علية وآلة وسلم ) ؟
لماذا تخافين من الموت وهو انتقال من هذه الحياة البائسة ، إلى رب رحمن رحيم كريم ؟
قالت:نعم ، وتهللت أساريرها ، وارتسمت على وجهها بسمة ، وقالت: كلامك صحيح . الآن لست خائفة ، وظهر عليها السرور.
ثم أمرت أن يدخل أقاربها وزوارها ، فكلمتهم وهي مستبشرة ، فقال بعضهم: لقد سحرها أحمد ! فتبسمت وقالت: نعم . وبعد مدة وجيزة فارقت الحياة ، رحمها الله .
كانت هذه الدكتورة تعيش الشك ، لكنها كانت تقبل الدليل ، ولا تقاومه !
(6) القيمة العلمية لكلام المعصومين ؟
كن مثلي يا صاحبي، واشكر خالقك على نعمة العقل، الذي يوصلك بيقينياته الى المعصومين(عليهم السلآم ) ، المفتوح لهم نوافذ الغيب ، واستمع اليهم وهم يحدثونك من أين أتيت وكيف أتيت ، والى أين أنت ذاهب .
إن الكلمة من معصوم أكثر مصداقية من كتاب لعالم غربي ، لأن المعصوم يخبر بما قاله له خالق الكون ، ولا يرقى الى مستواه كلام عالم يفكر ويحلل ويتصور ، ويحكم .
وليكن يقينك بها أشد من يقينك بما تسمع بأذنك ، أو ترى بعينيك .
تَعَلَّم من إمامك علي(علية السلآم ) حيث يقول: ( أخبرني رسول الله(صل الله علية وآلة وسلم ) بما الأمة صانعة بي بعده ، فلم أكُ بما صنعوا حين عاينته، بأعلم مني ولا أشد يقيناً مني به قبل ذلك ، بل أنا بقول رسول الله(صل الله علية و آلة وسلم ) أشد يقيناً مني بما عاينت وشهدت ).(كتاب سليم بن قيس/215).
إنه يقول لك: إن وسائط الوحي وأجهزته ، أكثر دقةً وصحةً من أجهزة حواسك المادية . فإن كنت تؤمن بالحقائق العلمية التجريبية لأنها حسية تملك السند الموضوعي للإعتقاد بها ، فليكن إيمانك بحقائق الوحي وكلام المعصوم(عليهم السلآم ) أشد منها ، لأنها تملك السند الموضوعي الأقوى .
فإن شككت فيما ترى من حقائق العلوم ، فلا تشك فيما يأتيك من الوحي .
نسآلكم خالص الدعاء ..
تحيااااااااتي@